الأربعاء، سبتمبر 01، 2010

رمضان .. الفن فى أحضان التاريخ ( احد موضوعاتي في مجلة حورس )


ضيف ساحر، يمر طيفه بخفه، ما أن تنتبه لمروره يتركك، مخلفاً وراءه عيد و وعد بعودة أخرى. رمضان .. هذا السحر الذى يمر بك – مره كل اثنى عشر شهراً – يمارس سحره على روحك و يفتح لها أبواب الرحمة من ثم المغفرة، ليهديك قرب رحيله أملاً فى العتق. يذوب وجدانك فى عبادة و تهفو روحك بسماحة و تجاهد نفسك قليلاً و تغوص بروحك حيث الدر الكامن تكشف أجمل ما فيه.

نهار رمضان صاخب به من العمل و العبادة، و ليله رائع، تهفو نفسك فيه إلى صانعها. إن اشتهت نفسك مقطوعة موسيقية يتردد فى ذهنك صوت النقشبندى " لما بدا فى الأفق نور " أو يتردد صوت أم كلثوم " دعاني لبيته لحد باب بيته و اما تجلى لى بالدمع ناجيته " ، و على الحجار هياخدك " صلينا الفجر فين صلينا فى الحسين و الازهر و الامام و السيده المقام فى سندس ندى حرماً يا سيدى "

السهرات الرمضانية الفنية تملأ أرجاء القاهرة، إلا أن سهرات البيوت الثقافية تختلف. هناك فن حقيقي يسمو بوجدانك، و يمارس سحره الخاص على كل حواسك، ليتركك فى حالة خاصة جداً. صندوق التنمية الثقافية أخذ على عاتقه مسؤلية الفن الراقي من خلال عروض فنية متميزة و لقاءات ثقافية تقدمها مراكز الإبداع التابعة للصندوق.

اليوم أنا مرشدتكم السياحية فى رحلة روحانية خلابة لا تنقصها المتعة و يزيدها السحر رونقاً.

لأجدادنا لعنة – ليس فقط الفراعنة منهم – تصيبنا نحن المولعين بتاريخنا و روعته. ما إن تخطو قدماك أول طريق به عبق الأجداد، تجد نفسك مشدوهاً بما حولك. "أنت سائحة" هكذا لقبنى أحد الأصدقاء حين ادرك إنسلاخى عن كل ما حولى وأنا أتطلع بإنبهار إلى روعة البناء و تفاصيل الزخارف فى مناطق الحسين و خان الخليلي و ما يتفرع منهم من خطوط فنية غاية فى الأبداع – عفواً لن أجرؤ على تلقيب تلك الخطوط بالشوارع و لا المبانى بأنها مجرد أبنية- نعم هي خطوط لفنان مبدع بالفطرة.

ينفلت من بين يدى عقد الحكايا، فأرانى أعود بالزمان مئات الأعوام ، لأجوب المنطقة من خلال عربة تجرها الخيول. يطربنى النغم المتصاعد من دقة أرجلها – الخيول – مع الأرضيه المبلطة بحجر البازلت الأسود اللامع، و دندنة العجلات الخشبية معها. حين أجذبها – الخيول – تتهادى خطوتها رويداً رويداً إلى أن تستقر بى بجوارمسجد الحسين، هذا الصرح البهي الطلة، الأثرى المعمار، الذي تأتيه الجموع من شتى الأنحاء ليتزودوا ببركة المكان و تطيب أرواحهم بطِيبِهِ. تتصاعد منه أصوات المنشدين لتصيبك أنت المار بجانبها بحالة من العشق المختلف. يجذبك بريق الحوانيت و رائحة البخور و العود و المسك و الطيب ، فتأخذك أقدامك بلا إرادة الى روعة المعمار و عبقرية البناء ( خان الخليلي) لتطالعك وجوه التجار السمحة الذين أتوا من منطقة الخليل بفلسطين بزيهم القديم.هنا يمكنك التزود ببعض القطع التى تحمل تاريخاً و تعود أدراجك محملاً بذكرى مادية أيضاً فضلاً عن الذهنية التى تبقى أبداً. الخان تحفة معمارية عبقرية بلاشك ، لكنك وسط الانبهار تنجذب يساراً لتلدف الى المكان الأكثر شهرة حتى الآن (قهوة الفيشاوي) لتدرك أن الإنبهار هنا سرمدي . تجذب إنتباهك المرايا – التى ميزت القهوة إلى حد تسميتها بقهوة المرايا – ببريقها الذهبى الباقى بقاء الزمن و ضخامتها و يدهشك أن هذه الروعة كان غرضها المراقبة. هل إكتفيت من الراحة هنا و المشروبات وسط مراقبة التاريخ القائم حولك و انشاد الفنانيين على العود ؟ الرحلة لم تنتهى بعد . كل ركن و كل سور و كل مبنى هو تاريخ قائم بذاته ، لن يدهشك توقف البعض لقراءة اللوحات التعريفية على الجدران أو السؤال عن قصة مبنى. فلنخطو قليلاً وسط معمارنا القديم إلى أن تصل أقدامنا إلى سحر الماضى و عبقرية الحاضر متمثلة فى أربعة من مراكز الإبداع (بيت الهراوى او بيت العود – بيت زينب خاتون – مركز إبداع الطفل – مدرسة العيني) يتوسطهم مسرح صغير لعرض مجموعه متنوعه من روائع الفن . فهنا طوال العام – وخصوصاً فى رمضان – السهرات لها طابع فنى مميز تتنوع ما بين حفلات الإنشاد والأمسيات الشعرية التى تتخللها الموسيقى و بين الحفلات الموسيقية المتنوعة (عزف على آلات محددة أو فرق موسيقية كاملة ، غناء شعبى أو نوبي أو طرب أصيل) ، هذا على سبيل المثال لا الحصر ، فالحصر هنا مستحيل، كل ليلة تأتى لمتعة غير عادية و لن تمل المجىء يومياً.

هل تريد مشاهدة عرض التنورة و الفلكلور النوبي و الأمسيات الشعرية و الموسيقى من شتى عصورها ؟ الإنشاد الدينى و الإبتهالات الرائعة؟ خيال الظل و الأراجوز؟ اذن وجهتك ( مركز إبداع قصر الغوري – مركز طلعت حرب الثقافي – بيت الشعر العربي – بيت الغناء العربي – مركز إبداع القاهرة – مركز الموسيقى العالمي بقصر المانستيرلي – قصر محمد على). أنت لم تبتعد كثيراً عن موقعك فى قلب القاهرة. هنا تلتقي بالفنانيين من كل مكان أتوا ليُمتعوا و يستمتعوا. الفن فى أحضان التاريخ له متعة أخرى.

فانوس و مدفع و مسحراتي

للحديث عن ضيفنا الساحر (رمضان) أوجه شتى ، لكننا لا نستطيع أن نتحدث عنه دون ذكر أكثر ما يميزه (الفانوس). فانوس رمضان طقس خاص جداً بالشهر الكريم دون سواه. القصة لها أكثر من رواية ، فهناك من يقول أنه كان يخرج الاطفال حاملين الشموع فى فوانيس زجاجية – لتسمح بالإضاءة دون أن يطفئها الهواء – لإستقبال الخليفة المعز لدين الله الفاطمي – حيث صادف مجيئه الى القاهره فى ليل شهر رمضان – و هم ينشدون الأغاني فأكتسب الشهر هذه العادة. و هناك قول آخر أنه كان من غير المسموح للنساء بمغادرة بيوتهم سوى فى شهر رمضان فكان يصحب خروج السيدة غلام صغير يحمل فانوس للإضاءة و لإخبار القادمين أنه هناك سيدة بالطريق . و هناك رواية أخرى تقول أن أحد الخلفاء الفاطميين أمر بأن تعلق الفوانيس لتنير الطريق فى الشهر الكريم. أياً كانت الرواية الصحيحة فلا شك أن الفانوس أصبح أكثر ما يميز شهر رمضان . و رغم أنه قد تخلى بعض الشىء عن شكله الأصلى المعدنى و زجاجه الملون بأجمل الألوان و الشمع الذى يتلألأ بداخله إلى أشكالٍ عدة ، إلا أنه لا زال يطالعنا بصورته القديمة الجميلة معلقاً بين المنازل أو فى بهو الفنادق و المحلات التجارية.

إن كان شهر رمضان إرتبط بـ (الفانوس) فهناك أيضاً (مدفع رمضان). و إن كان للفانوس قصة فللمدفع أيضاً. يروى أنه فى عصر محمد على باشا ، و كان قد أستحدث بعض المدافع فأحال القديمة منها إلى المخازن دون أحدها الذي وُضِع َ فى القلعة تذكاراً لإنتصاراته. في أحد أيام شهر رمضان أطلق قذيفة وقت آذان المغرب ، فأستبشر الأهالي بهذا و خرجوا فى مظاهرة تأييد للوالي شكراً على هذا العمل ، فأمر الوالى بإطلاق المدافع فى شهر رمضان وقت الإفطار و مع آذان الفجر و في الأعياد و المناسبات.

هل صادفكم ليلاً هذا الشخص بسيط الطلة الذي يحمل طبلة و عصا صغيرة يدق بها و بصوته يؤنس سكون الليل مردداً بعض الجمل ( إصحى يا نايم وحد الدايم و قول نويت بكره إن حييت الشهر صايم و الفجر قايم ، السعي للصوم خير من النوم ،اصحى يا نايم وحد الرزاق ، رمضان كريم ) و أحياناً ينادى الناس بأسمائهم (قوم أتسحر يا فلان ) . المسحراتي ، هذا الرجل الذي لا ندري أين يذهب بقية العام – إلا أنه طقس مميز جداً و خاص جداً بالشهر الكريم – ليس مجرد رجل عادي إنما وراءه قصة . تبدأ من عصر الحاكم بأمر الله الفاطمي حيث أمر الناس بأن يناموا بعد صلاة التراويح و كان يرسل الجنود يدقون الأبواب ليوقظوا الناس قبل آذان الفجر للسحور. أتخذ التسحير شكلاً فنياً فى عصر الدولة العباسية من أهم فنون الأدب الشعبى (فن القومة) إلا أنه لم يتم الإحتفاظ بالكثير من هذا الفن . فيما بعد إتخذ شكلاً فنياً أضافوا إليه مع الوقت بعداً سياسياً إجتماعياً على يد الشاعر فؤاد حداد و الموسيقار سيد مكاوي. و بالرغم من أن المسحرين يبغون فى معظمهم الأجر المادي إلا أنهم كانوا و لا زال منهم المتصوفيين و المنشدين يبغون الأجر و الثواب من الله.

القاهرة ساحرة فى كل لياليها إلا أن رمضان يزيدها سحراً و رونقاً . الوجوه فى رمضان يكسوها نور و تعلوها إبتسامة و الألسنة مرطبة بذكر الله و حلو الحديث. تبادل اشاهي الطعام من حلوى و غيرها سمة مميزة للبيوت المصرية بصفة عامة إلا أنها تتخذ شكلها الأكثر إنتشاراً و الأكثر رحابة فى رمضان. الخير يملأ شوارعها و الترحاب سمة مميزة لشعبها إلا أنه فى رمضان يصبح السمة الأكثر إنتشاراً، فلن يخلو شارع – أو ما دونه – من موائد إفتُرِشَت بأشهى أنواع الطعام و الدعوة مفتوحة لك كنت فقيراً أو غنياً. إذا أتاك وقت آذان المغرب و أنت فى أى مكان فلا تنشغل بالطعام ، أنت مدعو على الإفطار على أى الموائد تشاء فكلها (موائد الرحمن) .

آخر طقس

ذات صباح لن يُغْفِلَ استيقاظك.. أنت على موعد مع .. الحياة لم تنبئني العرافة به.. لم تفصح عنه فناجين القهوة حدسٌ هو.. لم تتمكن سن...